«الثلث الجلي».. انسيابية تداعب العين - اليوم الإخباري

0 تعليق ارسل طباعة

رغم كثرة لوحات الخط العربي، والتشابه الذي يظنه المشاهدون في الكثير منها، لا يزال العديد من الخطاطين المبدعين يقدمون أعمالاً متنوعة، متكئين على ما تولّده المضامين النصية في خيالاتهم من قدرات فنية، يحاولون عبرها الكشف عن المزيد من جماليات الحرف العربي، مثل الخطاط العراقي زياد حيدر المهندس.
يتميز المهندس بكونه من الخطاطين المهتمين بأشكال التكوينات والتراكيب الخطية، حيث يسعى من ورائها إلى إقامة علاقات بنائية بين كلمات نصوصه ومقاطعها ومضامينها، معتمداً على خلق النطاق الذي يمكّنه من إبراز قدراته في التأليف الشكلي المغلق، ما يكسب لوحاته تنوعاً قد يظهر في اللوحة الواحدة، مانحاً المشاهدة متعة بصرية مريحة، وهو ما استطاع تحقيقه بفضل إتقانه لأهم أنواع الخط العربي مثل النسخ والثلث والثلث الجلي والمحقق، وسعيه إلى توظيف أهم خصائها الجمالية لتقديم أجمل ما يمكن من إبداع خطي، ويمكن ملاحظة ذلك الجهد الفني من خلال اللوحة التي نستعرضها هنا.
*توصيل
اشتغل المهندس في لوحته على كتابة قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، وهو جزء من الآية 2 من سورة المائدة، وهو أمر صريح من الله لعباده المؤمنين بالتعاون على أعمال البِر، وكل ما يعينهم على تقواه عزّ وجلّ، وإنّ تقدّم البر في الآية على التقوى يدل على أهميته الكبيرة، ودوره في تحقيق التعاون والتعاضد من أجل تحقيق الأهداف الدنيوية والأخروية المشتركة، فالبرّ اسم جامع لكل الأعمال التي يحبّ الله فعلها ويرضاها؛ ظاهرها وخفِيّها، سواء كانت من عباداته، أو كانت مما يتعلّق بتعامل البشر في ما بينهم، والتقوى هي الالتزام بترك كل ما نهى عنه الله ورسوله، سواء كان ظاهراً أو خفيّاً، فالنص دعوة لتعاون المؤمنين في ما بينهم على فعل الأعمال الخيرة، وترك الأعمال المخالفة لشرع الله وللفطرة السوية، وهي المضامين التي أراد الخطاط توصيلها للمشاهد في لوحته هذه.
وقد كتب نص العمل بخط الثلث الجلي، الذي لا يزال الخطاطون المبدعون يواصلون تقديم الجديد فيه، رغم صعوبته وكثرة الأعمال المنجزة به، وذلك نظراً لمرونته وانسيابية خطوطه، التي تمكّنهم من تطويع الحروف من أجل تنفيذ تكويناتهم وتراكيبهم المتنوعة، وهي ميزة تتاح لهم من خلالها ممارسة تقنياتهم الفنية بحريّة، من دون الخروج على القواعد الخاصة بهذا الأسلوب، جاعلين المشاهد يسبح في فضاءات جمالية رحبة، وهو ما حرص المهندس على فعله في لوحته من خلال اعتماد بعض خصائص هذا الخط المرتكزة على الدّقة في رسم الحروف والكلمات، من دون أن يكون للتراكب والتقاطع بينها تأثير في ضبط هيئتها، بالإضافة إلى استغلال حروف العطف، والنقاط والحركات التشكيلية والتزيينية في إكمال التأليف الشكلي المغلق الذي يتطلبه الثلث الجلي.
*براعة
صمم المهندس لوحته الخطية بشكل بيضوي، وخط نصه في تناظر عمودي محكم، حيث بدأ من الأسفل إلى الأعلى، فكتب «وتعانوا»؛ جاعلاً إيّاها قاعدة للشكل المتناظر في جانبيه، للإشارة إلى أن ما يرتكز عليه مدلول اللوحة هو التعاون بين المؤمنين، الذين جاء ذكرهم في بداية الآية التي يعتبر نص اللوحة جزءاً منها، وقد أكد ذلك بالبداية بحرف العطف، ثم كتب «على»، ليحدث تماثلاً بصرياً بين عينها وعين «تعاونوا»، ثم كتب «البر» في نفس مستوى «على» ليشرع المشاهد في إدراك ما يجب التعاون عليه، وأوله «البر»، وثانيه «التقوى» الذي كتب كلمته في أعلى الشكل، جاعلاً من ألفها المقصورة المتناظرة تاجاً يزيّن التكوين، وإذا كان جعله لكلمة «البر» في قلب الشكل تأكيداً على أهمية البر الذي ورد قبل التقوى في الآية، فإن جعله لكلمة التقوى في قمة الشكل إشارة إلى أن «البر» لا يمكن أن يحدث إلا بتقوى الله عز وجلّ.
وتكشف طريقة ربط الخطاط للحروف المتناظرة عن براعة كبيرة، ووعي تام بجماليات العمل الخطي، خاصة ألف «تعاونوا» التي شكّل بجانبيها في التناظر قوساً، والحروف المتقاطعة في منتصف التكوين، وكلها لمسات فنية بديعة؛ جعلت هيئة التناظر تبدو بما يعكس المعنى العام للنص؛ أي التعاون على ما يرضي الله وينفع الناس.
*إضاءة
ولد زياد حيدر المهندس في محافظة «أربيل» العراقية سنة 1967م، وتأثر منذ بداياته بالخطاط الكبير هاشم البغدادي، فتجول ليطلع على أعمال كبار الخطاطين في المتاحف والمعارض الفنية، وهو حاصل على بكالوريوس من كلية الهندسة في جامعة الموصل سنة 1991، وحصل على عدة جوائز، منها: الجائزة الثانية في مسابقة ابن البواب سنة 1993، والجائزة الأولى في مسابقة حمد الله الأماسي سنة 1996، وعدة جوائز في مهرجاني بغداد العالمي الثاني والثالث، والجائزة الأولى على مستوى العراق في مهرجان «أربيل» 1998م، والجائزة الأولى في مسابقة سوق عكاظ 2015، وشارك في عدة معارض وفعاليات حول الخط العربي.

أخبار ذات صلة

0 تعليق